لي جارُ يحزّ في نفسي الحديث عنه في غيابه ، لكن صبري عيل من تصرفاته التي يؤسفني وصفها بـ (المزعجة) !.. فجاري هذا إتخذ من علّية بيته (مبكًى) ينتحب فيه كل (هزيعٍ أوّلٍ) من الليل ، ويحثي (أنغاما ثقيلة) على نفسه ، ويسكبها علينا ـ نحن جيرانه ـ من مسجلته التي يتعمّد رفع صوتها ، ولا أدري حقيقة ماذا يقصد بذلك : أهو لاينتشي بأحزانه ، ولا يجتر آلامه إلا على صوت الموسيقى الناحبة الصاخبة ؟!.. أم أنه يريد إسماعنا ـ نحن جيرانه ـ عذاباته وولهه ، وإشراكنا في معاناته ؟!..
ومهما كان هدفه ومغزاه من وراء إقامته (لليالي نحيبه) بالتباكي على (أطلال) أم كلثوم ، ومحمد عبدالوهاب ، وغيرهما من كواكب الحب والسكينة التي يصر على إظهار أنوار أنغامها ومعانيها في ذلك الوقت من الليل ، فإن جاري تمادى في مأتمه الآثم !.. آثمٌ لأن جاري الآخر إنسان أكثر إلتزاما منا نحن الإثنين ـ أنا وجاري المزعج ـ ولا أسمع غير أصوات المقرئين والمشايخ ، تصدر من بيته !.. وإجراء مقارنة بين الجارين لاتعني أني أتنصت عليهما أو أراقب ما يصدر منهما ومن بيتيهما من أصوات وتصرفات ، بل لأنهما مُصابان بما يشبه (الصمم الجزئي) فيطحناني بينهما وبين فترتين من اليوم ، بتلاواتٍ قد لا أكون مُهيئا لمتابعتها بحكم (وإذا قُرأ القرآن فأنصتوا) ، وبنحيبٍ يفض مضجعي ويجبرني على حشو أذنيّ بالقطن أوحتى بالفلّين ، كي أتمكن من إغماض جفنيّ !.. لأنني لا أستطيع النوم إلا والصمت شبه مُطبق على المكان !..
جاري الأول (صاحب المبكى) ، أكثر إزعاجا من جاري الثاني (صاحب القراءات) ، لأن مبكاه موجود (فوق السطوح) ، فيما نتشابه أنا وجاري الثاني في إكتفائنا ببناء مسكنينا بطابق أرضي فقط ، ليس لعجز عن التطاول في البنيان كما فعل جارنا الأول ، بل لأننا لانريد أن يُشير إلينا العزال والحسّاد بأصابع الإتهام ، أو أن نكون مضرب أمثالهم كلما أتوا على ذكر الساعة وعلاماتها !..
أنا وجاري (صاحب القراءات) لانريد أن نكون حتى علامات صغرى من علامات الساعة .. (أن ترى الحفاة العراة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان ..) ، لذلك نتحمل تطاول جارنا الآخر (صاحب المبكى) على ساعات ليالينا ، وعلى أحلامنا في الإغفاءة ، على أن نعانده ونتطاول في البنيان نحن أيضا !..
في أيام عزوبيتي ، لم أكن أستطيع النوم إلا على صوت دقات الساعة الحائطية في غرفة نومي ، ربما لأنني أقنعت نفسي سريعا وساعة إقتنائها ، بأن (تك ، تاك) الصادر منها أصبح جزءا من طقوس إستقدام طيف النوم !.. أما ما سواها حتى ولو كان (بعوضا) ، فهو يسبب لي الصداع ، ويشعرني بالإنزعاج ، ويجبرني على إضاءة الأنوار من جديد ، والنهوض من السرير لمطاردته !..
أما بعد زواجي ، فقد تغيّر الوضع ، لأن زوجتي على عكسي تماما ، لا تنام إلا على صوت الإذاعة الوطنية ، بل هي مستمعة وفية لبرنامج إذاعي للعشاق المؤرّقين الذين يرسلون آهاتهم عبر ذاك الأثير ، ويبثون أشواقهم ومعاناتهم مع الوجد عبر تلك الترددات !..
زوجتي تعوّدت على أن تكون أخبار الحب وأصوات المحبّين ، آخر ما يتناهى إلى مسامعها .. وأنا تعوّدت على أن يكون الصمت ستارا يحجب عني إجترار يومياتي السعيدة والتعيسة على حد سواء ، واستغلال ساعات النوم منذ الدقيقة الأولى ومنذ أول ثانية !..
في مملكة الزواج تتغير الكثير من العادات ، والمملكة الناجحة هي التي يكون أصحابها مرنين بحيث يستطيعون التأقلم سريعا مع المتغيرات ومع المسؤوليات !.. لذلك جمعنا ـ أنا وزوجتي ـ عادتينا المتناقضتين تماما وتبنينا عادة النوم على (صوتٍ خافض جدا) لكوكبة من المُقرئين !..
لاأدري لماذا لايستغل جاري (صاحب المبكى) ساعات إنتحابه في قيام الليل ، والتضرع إلى المولى أن يفرج عنه كربه ويزيل عنه شدة عشقه وهواه ؟!.. ولاأدري لماذا يعتقد أن البكاء على الأطلال أجدى وأنفع من البكاء والإرتماء ـ كالجيفة الواهنة والعاجزة عن إستلال سهام العشق من قلبها ـ بين يدي (أسدٍ لا يرضى أكل الجيف) ؟!..
لاأدري لماذا لايكسب ثوابا فينا بأن يدعنا نبكر في النوم لنبكر في الإستيقاظ لأداء صلاة الفجر في الجامع ، ونستقبل أنفاس يوم آخر قبل الخليقة ، وتنتعش بها نفوسنا ، وترتوي بها أرواحنا ، ونحمد الله ، ونستغفره ، ونسبحه على يوم آخر ، وفرصة أخرى للهداية !..
اللهم أهدنا لما تحبه وترضاه .. آمين يا رب العالمين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتاج الديــن | 16 . 05 . 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أترك تعليقا لو أردت