في مشهدٍ من مشاهد كوميديا (ضيعة ضايعة ! ) ، يقوم أحد القرويين بنقل زوجته على جناح السرعة إلى مستوصف القرية ، بعدما إشتكت من ألم خفيف تفاقم بعدما ناولها دواءًا أوصاه به جاره ، فاستعاره منه ! .. طبيب القرية إستشاط غضبا بعدما حكى له القروي الواقعة من طأطأ للسلام عليكم ، مستدلا بعلبة الدواء التي حملها معه في جيبه ! .. وأكد للطبيب حضور الجار الذي إستعار منه الدواء أيضا وهو ينتظرهم خارجا ، فأشار عليه الطبيب بالتوجه إلى الجار وسؤاله عن مصدر الدواء ، فنادى الرجل : أبو جودة ؟! ..
فرد الآخر : نعم أنا أبو جودة ، وأنا بالخدمة ! ..
فسأله الطبيب بغضب : هل أنت من أعطى هذا الدواء لهذا الرجل ؟ .. ومن أين حصلت عليه ؟ ..
فرد أبو جودة : نعم أنا أعطيته إياه يا حضرة الطبيب ، وأنا ( إستلفته) من فلان ـ وأشار إلى رجل آخر كان معه ـ .. فأكد الأخير أنه فعلا أعطاه الدواء ، وهو بدوره إستلفه من رجل آخر غائب نصحه به لأن مفعوله أكيد بحكم التجارب المختلفة ، والأمراض المختلفة التي قام بشفاء أصحابها منها ! ..
الطبيب كان مذهولا من مشهد القرويين ، وحانقا على جهلهم ، وعلى لامبالاتهم بشروط السلامة ، وكان يقاطعهم مصرا على معرفة جواب لسؤال واحد : ما مصدر الدواء ؟! .. وطبعا تبين أن الوصول إلى المصدر أمر بالغ الصعوبة ، في ظل تسلسل الدواء بين القرويين يستلفونه من بعضهم ، ويتناصحون فيما بينهم لتناوله ، كما يشيدون بفعاليته ! ..
وفي خضم إلقاء الطبيب اللوم على القرويين لجهلهم ، وأثناء دفاعاتهم عن أنفسهم لإنفاء تهمة الجهل عنهم ، أصبح الحوار جماعيا يدّعي البعض من خلاله النباهة ، ويلقي باللوم على الحكومة التي تركتهم بدون تعليم ، وكيف أن وضعهم سيكون مختلفا لو أنها قامت ببناء مدارس ليتعلموا منها ! .. ويدافع البعض الآخر عن الحكومة وسياستها ، وكيف أنها عاجزة عن تنوير عقول (المخبولين) من أمثالهم ، ولن تتمكن من تثقيفهم حتى لو بنت لهم مدارس وجامعات ، وأن صفة الجهل ملتصقة بهم لن تفارقهم حتى مع جهود الحكومة ! ..
وفي مشهدٍ آخر يقود شاب قروي (نبيه) حملة لرفع الغبن عنهم ، بكتابة عريضة يطالبون فيها الحكومة ببناء مدرسة بالقرية ، فأخذ يجمع تواقيع القرويين الذين لايقتنعون بالإمضاء إلا بشق الأنفس ، لذلك إكتفى الشاب بإقناع صهره ، وجار صهره أبو جودة ، وسلمهما الوثيقة لجمع باقي التواقيع ! .. إقناع القرويين صعب حتى مع محدودية ثقافتهم ، لأنهم لايعرفون ما كتب بالوثيقة ، فلا يدعهم الشك والريبة يقتنعون بسهولة ، لذلك عمد الشاب إلى طمأنتهم بأن الوثيقة لن يطلع عليها رئيس مقاطعتهم ، ولن يرسلوها عبر الدوائر الحكومية خوفا من أن تنقطع بها السبل دون أن تصل إلى أصحاب الشأن ، وأنه سيقوم بحملها بنفسه إلى فوق .. فوق .. فوق .. على مجلس الشعب ! ..
وأثناء رحلة العريضة بين القرويين ، توقفت مطولا عند أحد القرويين المسنين نسبيا ، والذي إمتنع عن التوقيع ، مبررا ذلك بخوفه من أن تحمل العريضة شيئا (ضد مصلحة الحكومة ) ، فحاول الرجلان إقناعه بأنها لو كانت تحمل شيئا ضد مصلحة الحكومة لما وافقا على التوقيع عليها ، فرد الرجل : كم من أمور نحسبها ليست ضد مصلحة الحكومة ، تطلع فعلا ضد مصلحتها ، واستدل بتجربته الشخصية عندما قام شبان فيما مضى على حمله على التوقيع على وثيقة كتلك ، فبهدلته الحكومة ثمانية أشهر كاملة ينزل ويصعد ، وهو ليس على إستعداد للبهدلة في أواخر حياته .. فتركاه ومضيا ، لكن الشك بدأ يتسلل إلى نفسيهما بعدما سمعا كلام الرجل ! ..
كلا المشهدان من كوميديا ظاهرة ، لكنها من نسيج تراجيديا الواقع .. واقع أن المواطن البسيط يبقى محروما من الثقافة الصحية ، والإجتماعية ، و .. و .. وكل الثقافات ، في ظروفٍ تبقى غامضة وعصية على الفهم ، حول المسؤول عن تثقيفه ؟! .. أهو المُطالب بثقيف نفسه ، ويسعى جاهدا إلى ذلك حتى ولو كان محروما من المدارس الإعدادية التي يتعلم منها الحروف الأبجدية على الأقل ليستطيع بعدها أن يكمل مسيرته لوحده ، وليستطيع قبل ذلك كله أن يقرأ ما كتب بعريضة ٍ ما قبل أن يوقع عليها ، وقراءة ما كتب على علبة الدواء قبل أن يقتل به نفسه أو غيره ، لأنه ليس دواءا للزكام ولا للإسهال ولا للعظام بل هو للأوعية الدموية ؟! .. أم أن تثقيفنا كمواطنين هو مسؤولية الدولة ، وحق من حقوقنا عليها إذا كانت تريد فعلا أن تحافظ على سلامتنا وأمننا ؟! .
ــــــــ
تاج الديــن : 09 ـ 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أترك تعليقا لو أردت