في ظاهرة كونية نادرة ، أشرقت شمس العام الجديد من مغربها على أرجاء العالم العربي ، وذلك عندما أقام الشعب التونسي الدنيا وما أقعدها لحد الساعة ، لحين تطهير المقرّات الحكومية من مُخلفات الحقبة السوداء ، والمغضوب عليها ! ..
فالتجربة التونسية أثبتت قدرة الشعب التونسي على إحداث تغيير أساسي وجوهري في نظام حكمه ، ببصق (علكة) الحزب الواحد الحاكم والمستبد ، التي لا تزال باقي الشعوب العربية تجترها بلا أي طعم ، ولا أي فائدة ! ..
فالحراك الجنوبي اليمني مثلا كان السبّاق إلى مناهضة حكم علي عبدالله ، بل وبدأ مسيرته النضالية في وجه السلطة قبل الحراك التونسي بكثير ، لكن فشله في تحقيق مكسب حقيقي وملموس كذاك الذي حققه الشعب التونسي كان مردّه إلى هدف الجنوبيين الرامي إلى نسف الوطن الواحد ، لذلك لم تلقى دعواتهم للخروج على رأس النظام دعما جماهيريا كافيا ، لرغبة باقي اليمنيين في وحدة وطنهم ، ولهم كل الحق في ذلك ! .. ولذلك ظل الحراك اليمني يُراوح مكانه ، منعزلا ، ومحددا يسهل على الحكومة إستهدافه و تشتيته وأيضا قمعه ! ..
لتتوالى المحاولات العربية اليائسة بعد قيام الساعة على نظام بن علي ، لإستنساخ التجربة التونسية الناجحة بكل المقاييس العملية والإجتماعية والحضارية !.. والبداية كانت بالجزائر أين تحركت الجماهير ، ونادت بحقها في (الإطعام) متناسية كل جُملة الحقوق المشروعة المهضومة في الإسكان ، وفي العمل .. و .. و .. وكل الأحلام المُصادَرة بالجُملة ، لذلك سلبوا ونهبوا وعادوا جميعا إلى أوكارهم بعدما ملؤوا مخازنهم بالمسروقات ، في مشهد (كارتوني) من مشاهد حكايا علي بابا والأربعين حرامي ؟! .. يعني أن الشعب الجزائري إستمد قوّته من جاره وشقيقه التونسي فقط لإحداث تغيير جانبي ومحدود ، وتحقيق هدف بسيط لايتعدى التغذية بشكل جيد ، في حين أن الشعب التونسي كفر بلقمة يتناولها من أيدٍ تستصغره وتحتقره ، وأضرب عن ملإِ معدته مع الذل والبطالة والقمع والهوان ، وشتان ما بين الشعبين ، فأحدهما قهر حاجته البيولوجية من أجل إشباع حاجة روحية ونفسية أسمى ، هي الطمأنينة والسكون والعيش بسلام ولو كان ذلك على بطن خاوية ! .. والآخر نبح ونبح فرمى له السيد بقطعة صغيرة من اللحم ، لكنها كانت كافية لإلهائه عن أطنان اللحوم ، وكافية لإسكاته ربما إلى الأبد عن حاجته الماسة إلى الكرامة الحقيقية والإنسانية الفعلية ؟! ..
أما الشارع المصري فقد بدأ بالأمس القريب فقط يخطوا أولى خطواته في رحلة الإستنساخ عن التجربة التونسية هو كذلك ، والدعوة إلى الخروج تبناها تيّاري الحقوقيون والصحفيون ، بوصفهما الحلقتين الواصلتين بين الشعب والسلطة ، فالحقوقيون مدفوعين بتأنيب الضمير لعدم دفاعهم عن الحق ، ولصمتهم عن الظلم الممارس على جميع فئات الشعب ، والصحفيين مدفوعون بسلطتهم الرابعة التي سلبتهم السلطات العليا إياها ، وحوّلتهم إلى مهرجين وأبواقا وأقنعة ومزامير ! ..وطبعا كانت البداية ـ كما كل شيء في الحياة ـ صعبة في دولة تمتلك أكبر جيش أفريقي ، بل وعربي (منفرد) : يعني غير مدعوم بقواعد أوروبية أو أمريكية ، أو أي قوة تدخل تحت إمرتها بمسميات حقوقية وإنسانية أخرى ! .. مصر هي الوحيدة التي لانستطيع أن نفصل في مدى إمكانية نجاحها في تجربة التحرر من براثن الحكومة الراهنة ، لأن القوة الشعبية في شوارعها والبالغة ثمانون مليونا توازي قوة جيشها الحكومي ، بالتالي فالمواجهة بين الشعب والحكومة مفتوحة على كل الجبهات ، وقابلة لكل الإحتمالات ، لكن في الوقت الراهن لا يزال الحكم القائم هو فشل الجموع الغفيرة في الصمود أمام القنابل المسيلة للدموع الخانقة ، وأمام دوي الطلقات النارية التي جابهها الشعب التونسي ـ في الماضي القريب ـ ببسالة ! ..
هذه التجارب الفاشلة ـ لحد الساعة ـ وغيرها في الوطن العربي كثير ، ذكرتني بمثل مصري عن مبدأ التجريب يقول : [ مُش لازم أجرب كل حاجة علشان أعرف كل حاجة ، فمادام عقلي في رأسي قادر أعمل أي حاجة] .. وأتساءل عما إذا كان الإخوة المصريين يدركون الحكمة البالغة في مثلهم مع بساطته ، وأن التجريب ليس بالضروة إنعدام كل السبل أمام سبيل المجرب الأول ، وأن الطريقة التي إتبعها الشعب التونسي هي الوحيدة المتاحة لإحداث أي تغيير وعلى أي مستوى !.. والشعب المصري ليس وحده المدعو إلى ذلك ، فالشعوب العربية كلها متشابهة في كل شيء ، إلا في شيء واحد هو منهجية التفكير ، التي تختلف من شخص لآخر ، ومن مجتمع لآخر ، وكذا من بيئة لأخرى .. فالتفكير وحده ما يوجِد للمشكلة الواحدة ألف طريقة ومليون حل ، كلها ناجعة وفعالة ! ..
ولعل أكثر ما يُدمي القلب وما يندى له الجبين على ضوء تلك التجارب ، هو بعض المحاولات التي قام بها الشباب العربي لإستنساخ تجربة البوعزيزي مع الثورة ومع الإحتراق ، وكأنها الطريقة الوحيدة المتاحة للتعبير أو لتحريك الإرادات الشعبية للمطالبة بالحقوق المهضومة! ..
أم إن الثورة بغير النار لاتكون ؟ .. علما بأن نارٌ عن نارٍ أخرى أيضا تختلف ؟! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاج الديـن : 26 . 01 . 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أترك تعليقا لو أردت